فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.القراءات الوقوف:

قال النيسابوري:

.القراءات:

{البريئة} بالهمزة نافع وابن ذكوان.

.الوقوف:

{البينة} لا {مطهرة} o ك {قيمة} o ك {البينة} o ط {القيمة} o ط {فيها} ط {البرية} o ط {الصالحات} o لا {البرية} o ط {أبدًا} ط {عنه} ط {ربه} o. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1)} اعلم أن في الآية مسائل:
المسألة الأولى:
قال الواحدي في كتاب البسيط: هذه الآية من أصعب ما في القرآن نظمًا وتفسيرًا، وقد تخبط فيها الكبار من العلماء، ثم إنه رحمه الله تعالى لم يلخص كيفية الإشكال فيها وأنا أقول: وجه الإشكال أن تقدير الآية: لم يكن الذين كفروا منفكين حتى تأتيهم البينة التي هي الرسول، ثم إنه تعالى لم يذكر أنهم منفكون عن ماذا لكنه معلوم، إذ المراد هو الكفر الذي كانوا عليه، فصار التقدير: لم يكن الذين كفروا منفكين، عن كفرهم حتى تأتيهم البينة التي هي الرسول، ثم إن كلمة حتى لانتهاء الغاية فهذه الآية تقتضي أنهم صاروا منفكين عن كفرهم عند إتيان الرسول، ثم قال بعد ذلك: {وَمَا تَفَرَّقَ الذين أُوتُواْ الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينة} وهذا يقتضي أن كفرهم قد ازداد عند مجيء الرسول عليه السلام، فحينئذ يحصل بين الآية الأولى والآية الثانية مناقضة في الظاهر، هذا منتهى الإشكال فيما أظن والجواب: عنه من وجوه:
أولها: وأحسنها الوجه الذي لخصه صاحب الكشاف.
وهو أن الكفار من الفريقين أهل الكتاب وعبدة الأوثان، كانوا يقولون قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم: لا ننفك عما نحن عليه من ديننا، ولا نتركه حتى يبعث النبي الموعود الذي هو مكتوب في التوراة والإنجيل.
وهو محمد عليه السلام، فحكى الله تعالى ما كانوا يقولونه، ثم قال: {وَمَا تَفَرَّقَ الذين أُوتُواْ الكتاب} يعني أنهم كانوا يعدون اجتماع الكلمة والاتفاق على الحق إذا جاءهم الرسول، ثم ما فرقهم عن الحق ولا أقرهم على الكفر إلا مجيء الرسول، ونظيره في الكلام أن يقول الفقير الفاسق لمن يعظه: لست أمتنع مما أنا فيه من الأفعال القبيحة حتى يرزقني الله الغنى، فلما رزقه الله الغنى ازداد فسقًا فيقول واعظه: لم تكن منفكًا عن الفسق حتى توسر، وما غمست رأسك في الفسق إلا بعد اليسار بذكره ما كان يقوله توبيخًا وإلزامًا، وحاصل هذا الجواب يرجع إلى حرف واحد، وهو أن قوله: {لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ مُنفَكّينَ} عن كفرهم: {حتى تَأْتِيَهُمُ البينة} مذكورة حكاية عنهم، وقوله: {وَمَا تَفَرَّقَ الذين أُوتُواْ الكتاب} هو إخبار عن الواقع، والمعنى أن الذي وقع كان على خلاف ما ادعوا.
وثانيها: أن تقدير الآية، لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم وإن جاءتهم البينة.
وعلى هذا التقدير يزول الإشكال هكذا ذكره القاضي إلا أن تفسير لفظة حتى بهذا ليس من اللغة في شيء.
وثالثها: أنا لا نحمل قوله: {مُنفَكّينَ} على الكفر بل على كونهم منفكين عن ذكر محمد بالمناقب والفضائل والمعنى لم يكن الذين كفروا منفكين عن ذكر محمد بالمناقب والفضائل حتى تأتيهم البينة قال ابن عرفة: أي حتى أتتهم، فاللفظ لفظ المضارع ومعناه الماضي، وهو كقوله تعالى: {مَا تتلُواْ الشياطين} [البقرة: 102] أي ما تلت، والمعنى أنهم ما كانوا منفكين عن ذكر مناقبه، ثم لما جاءهم محمد تفرقوا فيه، وقال كل واحد فيه قولا آخر رديًا ونظيره قوله تعالى: {وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ} [البقرة: 89] والقول المختار في هذه الآية هو الأول، وفي الآية وجه رابع وهو أنه تعالى حكم على الكفار أنهم ما كانوا منفكين عن كفرهم إلى وقت مجيء الرسول، وكلمة حتى تقتضي أن يكون الحال بعد ذلك، بخلاف ما كان قبل ذلك، والأمر هكذا كان لأن ذلك المجموع ما بقوا على الكفر بل تفرقوا فمنهم من صار مؤمنًا، ومنهم من صار كافرًا، ولما لم يبق حال أولئك الجمع بعد مجيء الرسول كما كان قبل مجيئه، كفى ذلك في العمل بمدلول لفظ حتى، وفيها وجه خامس: وهو أن الكفار كانوا قبل مبعث الرسول منفكين عن التردد في كفرهم بل كانوا جازمين به معتقدين حقيقته، ثم زال ذلك الجزم بعد مبعث الرسول، بل بقوا شاكين متحيرين في ذلك الدين وفي سائر الأديان، ونظيره قوله: {كَانَ الناس أُمَّةً واحدة فَبَعَثَ الله النبيين مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ} [البقرة: 213] والمعنى أن الدين الذي كانوا عليه صار كأنه اختلط بلحمهم ودمهم فاليهودي كان جازمًا في يهوديته وكذا النصراني وعابد الوثن، فلما بعث محمد عليه الصلاة والسلام: اضطربت الخواطر والأفكار وتشكك كل أحد في دينه ومذهبه ومقالته، وقوله: {مُنفَكّينَ} مشعر بهذا لأن انفكاك الشيء عن الشيء هو انفصاله عنه، فمعناه أن قلوبهم ما خلت عن تلك العقائد وما انفصلت عن الجزم بصحتها، ثم إن بعد المبعث لم يبق الأمر على تلك الحالة.
المسألة الثانية:
الكفار كانوا جنسين.
أحدهما: أهل الكتاب كفرق اليهود والنصارى وكانوا كفارًا بأحداثهم في دينهم ما كفروا به كقولهم: {عُزَيْرٌ ابن الله} [التوبة: 30] و: {المسيح ابن الله} [التوبة: 30] وتحريفهم كتاب الله ودينه.
والثاني: المشركون الذين كانوا لا ينسبون إلى كتاب، فذكر الله تعالى الجنسين بقوله: {الذين كَفَرُواْ} على الإجمال ثم أردف ذلك الإجمال بالتفضل، وهو قوله: {مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين} وههنا سؤالان:
السؤال الأول:
تقدير الآية: لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب ومن المشركين فهذا يقتضي أن أهل الكتاب منهم كافر ومنهم ليس بكافر، وهذا حق، وأن المشركين منهم كافر ومنهم ليس بكافر، ومعلوم أن هذا ليس بحق والجواب: من وجوه:
أحدها: كلمة من هاهنا ليست للتبعيض بل للتبيين كقوله: {فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان} [الحج: 30].
وثانيها: أن الذين كفروا بمحمد عليه الصلاة والسلام، بعضهم من أهل الكتاب، وبعضهم من المشركين، فإدخال كلمة من لهذا السبب.
وثالثها: أن يكون قوله: {والمشركين} أيضًا وصفًا لأهل الكتاب، وذلك لأن النصارى مثلثة واليهود عامتهم مشبهة، وهذا كله شرك، وقد يقول القائل: جاءني العقلاء والظرفاء يريد بذلك قومًا بأعيانهم يصفهم بالأمرين.
وقال تعالى: {الركعون الساجدون الأمرون بالمعروف والناهون عَنِ المنكر والحافظون لِحُدُودِ الله} [التوبة: 112] وهذا وصف لطائفة واحدة، وفي القرآن من هذا الباب كثير، وهو أن ينعت قوم بنعوت شتى، يعطف بعضها على بعض بواو العطف ويكون الكل وصفًا لموصوف واحد.
السؤال الثاني:
المجوس هل يدخلون في أهل الكتاب؟.
قلنا: ذكر بعض العلماء أنهم داخلون في أهل الكتاب لقوله عليه السلام: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب». وأنكره الآخرون قال: لأنه تعالى إنما ذكر من الكفار من كان في بلاد العرب، وهم اليهود والنصارى، قال تعالى حكاية عنهم: {أَن تَقولواْ إِنَّمَا أُنزِلَ الكتاب على طَائِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا} [الأنعام: 156] والطائفتان هم اليهود والنصارى.
السؤال الثالث:
ما الفائدة في تقديم أهل الكتاب في الكفر على المشركين؟ حيث قال: {لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين}؟
الجواب: أن الواو لا تفيد الترتيب، ومع هذا ففيه فوائد أحدها: أن السورة مدنية فكأن أهل الكتاب هم المقصودون بالذكر.
وثانيها: أنهم كانوا علماء بالكتب فكانت قدرتهم على معرفة صدق محمد أتم، فكان إصرارهم على الكفر أقبح.
وثالثها: أنهم لكونهم علماء يقتدي غيرهم بهم فكان كفرهم أصلًا لكفر غيرهم، فلهذا قدموا في الذكر ورابعها: أنهم لكونهم علماء أشرف من غيرهم فقدموا في الذكر.
السؤال الرابع:
لم قال: {من أهل الكتاب}، ولم يقل من اليهود والنصارى؟
الجواب: لأن قوله: {مّنْ أَهْلِ الكتاب} يدل على كونهم علماء، وذلك يقتضي إما مزيد تعظيم، فلا جرم ذكروا بهذا اللقب دون اليهود والنصارى، أو لأن كونه عالمًا يقتضي مزيد قبح في كفره، فذكروا بهذا الوصف تنبيهًا على تلك الزيادة من العقاب.
المسألة الثانية:
هذه الآية فيها أحكام تتعلق بالشرع أحدها: أنه تعالى فسر قوله: {الذين كَفَرُواْ} بأهل الكتاب وبالمشركين، فهذا يقتضي كون الكل واحدا في الكفر، فمن ذلك قال العلماء: الكفر كله ملة واحدة، فالمشرك يرث اليهودي وبالعكس.
والثاني: أن العطف أوجب المغايرة، فلذلك نقول: الذمي ليس بمشرك، وقال عليه السلام: «غيرنا كحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم»، فأثبت التفرقة بين الكتابي والمشرك الثالث: نبه بذكر أهل الكتاب أنه لا يجوز الاغترار بأهل العلم إذ قد حدث في أهل القرآن مثل ما حدث في الأمم الماضية.
المسألة الرابعة:
قال القفال: الانفكاك هو انفراج الشيء عن الشيء وأصله من الفك وهو الفتح والزوال، ومنه فككت الكتاب إذا أزلت ختمه ففتحته، ومنه فكاك الرهن وهو زوال الانغلاق الذي كان عليه ألا ترى أن ضد قوله: انفك الرهن، ومنه فكاك الأسير وفكه، فثبت أن انفكاك الشيء عن الشيء هو أن يزيله بعد التحامه به، كالعظم اذا انفك من مفصله، والمعنى أنهم متشبثون بدينهم تشبثًا قويًا لا يزيلونه إلا عند مجيء البينة، أما البينة فهي الحجة الظاهرة التي بها يتميز الحق من الباطل فهي من البيان أو البينونة لأنها تبين الحق من الباطل، وفي المراد من البينة في هذه الآية أقوال:
الأول: أنها هي الرسول، ثم ذكروا في أنه لم سمي الرسول بالبينة وجوهًا:
الأول: أن ذاته كانت بينة على نبوته، وذلك لأنه عليه السلام كان في نهاية الجد في تقرير النبوة والرسالة، ومن كان كذابًا متصنعًا فإنه لا يتأتى منه ذلك الجد المتناهي، فلم يبق إلا أن يكون صادقًا أو معتوهًا.
والثاني: معلوم البطلان لأنه كان في غاية كمال العقل، فلم يبق إلا أنه كان صادقًا.
الثالث: أن مجموع الأخلاق الحاصلة فيه كان بالغًا إلى حد كمال الإعجاز، والجاحظ قرر هذا المعنى، والغزالي رحمه الله نصره في كتاب المنقذ، فإذًا لهذين الوجهين سمي هو في نفسه بأنه بينة.
الرابع: أن معجزاته عليه الصلاة والسلام كانت في غاية الظهور وكانت أيضًا في غاية الكثرة فلاجتماع هذين الأمرين جعل كأنه عليه السلام في نفسه بينة وحجة، ولذلك سماه الله تعالى: سراجًا منيرًا.
واحتج القائلون بأن المراد من البينة هو الرسول بقوله تعالى بعد هذه الآية: {رَسُولٌ مّنَ الله} فهو رفع على البدن من البينة.
وقرأ عبد الله: {رَسُولًا} حال من البينة قالوا: والألف واللام في قوله: {البينة} للتعريف أي هو الذي سبق ذكره في التوراة والإنجيل على لسان موسى وعيسى، أو يقال: إنها للتفخيم أي هو: {البينة} التي لا مزيد عليها أو البينة كل البينة لأن التعريف قد يكون للتفخيم وكذا التنكير وقد جمعهما الله هاهنا في حق الرسول عليه السلام فبدأ بالتعريف وهو لفظ البينة ثم ثنى بالتنكير فقال: {رَسُولٌ مّنَ الله} أي هو رسول، وأي رسول، ونظيره ما ذكره الله تعالى في الثناء على نفسه فقال: {ذُو العرش المجيد} [البروج: 15] ثم قال: {فَعَّالٌ} [البروج: 16] فنكر بعد التعريف.
القول الثاني: أن المراد من البينة مطلق الرسل وهو قول أبي مسلم قال: المراد من قوله: {حتى تَأْتِيَهُمُ البينة} أي حتى تأتيهم رسل من ملائكة الله تتلوا عليهم صحفًا مطهرة وهو كقوله: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتاب أَن تُنَزّلَ عَلَيْهِمْ كتابا مّنَ السماء} [النساء: 153] وكقوله: {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امرئ مّنْهُمْ أَن يؤتى صُحُفًا مُّنَشَّرَةً} [المدثر: 52].
القول الثالث: وهو قتادة وابن زيد: البينة هي القرآن ونظيره قوله: {أَوَ لَمْ تَأْتِيَهُمُ بَيّنَةُ مَا في الصحف الأولى} [طه: 133] ثم قوله بعد ذلك: {رَسُولٌ مّنَ الله} لابد فيه من مضاف محذوف والتقدير: وتلك البينة وحي: {رَسُولٌ مّنَ الله يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً}.
أما قوله تعالى: {يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً فِيهَا كُتُبٌ قَيّمَةٌ} فاعلم أن الصحف جمع صحيفة وهي ظرف للمكتوب، وفي: المطهرة وجوه:
أحدها: مطهرة عن الباطل وهي كقوله: {لاَّ يَأْتِيهِ الباطل مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت: 42] وقوله: {مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ} [عبس: 14].
وثانيها: مطهرة عن الذكر القبيح فإن القرآن يذكر بأحسن الذكر ويثني عليه أحسن الثناء.
وثالثها: أن يقال: مطهرة أي ينبغي أن لا يمسها إلا المطهرون، كقوله تعالى: {فِى كتاب مَّكْنُونٍ لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون} [الواقعة: 78، 79].
واعلم أن المطهرة وإن جرت نعتًا للصحف في الظاهر فهي نعت لما في الصحف وهو القرآن وقوله: {كتب} فيه قولان: {أحدهُمَا} المراد من الكتب الآيات المكتوبة في الصحف.
والثاني: قال صاحب النظم: الكتب قد يكون بمعنى الحكم: {كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ} [المجادلة: 21] ومنه حديث العسيف: «لأقضين بينكما بكتاب الله» أي بحكم الله فيحتمل أن يكون المراد من قوله: {كُتُبٌ قَيّمَةٌ} أي أحكام قيمة أما القيمة ففيها قولان:
الأول: قال الزجاج: مستقيمة لا عوج فيها تبين الحق من الباطل من قام يقوم كالسيد والميت، وهو كقولهم: قام الدليل على كذا إذا ظهر واستقام.
الثاني: أن تكون القيمة بمعنى القائمة أي هي قائمة مستقلة بالحجة والدلالة، من قولهم قام فلان بالأمر يقوم به إذا أجراه على وجهه، ومنه يقال للقائم بأمر القوم القيم.
فإن قيل: كيف نسب تلاوة الصحف المطهرة إلى الرسول مع أنه كان أميًا؟.
قلنا: إذا تلا مثلًا المسطور في تلك الصحف كان تاليًا ما فيها وقد جاء في كتاب منسوب إلى جعفر الصادق أنه عليه السلام كان يقرأ من الكتاب، وإن كان لا يكتب، ولعل هذا كان من معجزاته صلى الله عليه وسلم.
وأما قوله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الذين أُوتُواْ الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينة} ففيه مسائل:
المسألة الأولى:
في هذه الآية سؤال، وهو أنه تعالى ذكر في أول السورة، أهل الكتاب والمشركين، وههنا ذكر أهل الكتاب فقط، فما السبب فيه؟ وجوابه: من وجوه:
أحدها: أن المشركين لم يقروا على دينهم فمن آمن فهو المراد ومن لم يؤمن قتل، بخلاف أهل الكتاب الذين يقرون على كفرهم ببذل الجزية.
وثانيها: أن أهل الكتاب كانوا عالمين بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم بسبب أنهم وجدوها في كتبهم، فإذا وصفوا بالتفرق مع العلم كان من لا كتاب له أدخل في هذا الوصف.
المسألة الثانية:
قال الجبائي: هذه الآية تبطل قول القدرية الذين قالوا: إن الناس تفرقوا في الشقاوة والسعادة في أصلاب الآباء قبل أن تأتيهم البينة والجواب: أن هذا ركيك لأن المراد منه أن علم الله بذلك وإرادته له حاصل في الأزل، أما ظهروه من المكلف فإنما وقع بعد الحالة المخصوصة.
المسألة الثالثة:
قالوا: هذه الآية دالة على أن الكفر والتفرق فعلمهم لا أنه مقدر عليهم لأنه قال: {إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينة}، ثم قال: {أوتوا الكتاب} أي أن الله وملائكته آتاهم ذلك فالخير والتوفيق مضاف إلى الله، والشر والتفرق والكفر مضاف إليهم.
المسألة الرابعة:
المقصود من هذه الآية تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم أي لا يغمنك تفرقهم فليس ذلك لقصور في الحجة بل لعنادهم، فسلفهم هكذا كانوا لم يتفرقوا في السبت وعبادة العجل: إلا من بعد ما جاءتهم البينة فهي عادة قديمة لهم.
{وَمَا أمروا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)}
وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
في قوله: وما أمروا وجهان:
أحدهما: أن يكون المراد: {وَمَا أمرواْ} في التوراة والإنجيل إلا بالدين الحنيفي، فيكون المراد أنهم كانوا مأمورين بذلك إلا أنه تعالى لما أتبعه بقوله: {وَذَلِكَ دِينُ القيمة} علمنا أن ذلك الحكم كما أنه كان مشروعًا في حقهم فهو مشروع في حقنا.
وثانيها: أن يكون المراد: وما أمر أهل الكتاب على لسان محمد صلى الله عليه وسلم إلا بهذه الأشياء، وهذا أولى لثلاثة أوجه:
أحدها: أن الآية على هذا التقدير تفيد شرعًا جديدًا وحمل كلام الله على ما يكون أكثر فائدة أولى.
وثانيها: وهو أن ذكر محمد عليه السلام قد مر هاهنا وهو قوله: {حتى تَأْتِيَهُمُ البينة} [البينة: 1] وذكر سائر الأنبياء عليهم السلام لم يتقدم.
وثالثها: أنه تعالى ختم الآية بقوله: {وَذَلِكَ دِينُ القيمة} فحكم بكون ما هو متعلق هذه الآية دينًا قيمًا فوجب أن يكون شرعًا في حقنا سواء.
قلنا: بأنه شرع من قبلنا أو شرع جديد يكون هذا بيانًا لشرع محمد عليه الصلاة والسلام وهذا قول مقاتل.
المسألة الثانية:
في قوله: {إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله} دقيقة وهي أن هذه اللام لام الغرض، فلا يمكن حمله على ظاهره لأن كل من فعل فعلًا لغرض فهو ناقص لذاته مستكمل بذلك الغرض، فلو فعل الله فعلًا لكان ناقصًا لذاته مستكملًا بالغير وهو محال، لأن ذلك الغرض إن كان قديمًا لزم من قدمه قدم الفعل، وإن كان محدثًا افتقر إلى غرض آخر فلزم التسلسل وهو محال ولأنه إن عجز عن تحصيل ذلك الغرض إلا بتلك الواسطة فهو عاجز، وإن كان قادرًا عليه كان توسيط تلك الواسطة عبثًا، فثبت أنه لا يمكن حمله على ظاهره فلابد فيه من التأويل.
ثم قال الفراء: العرب تجعل اللام في موضع أن في الأمر والإرادة كثيرًا، من ذلك قوله تعالى: {يُرِيدُ الله لِيُبَيّنَ لَكُمْ} [النساء: 26] {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ} [الصف: 8] وقال في الأمر: {وَأمرنَا لِنُسْلِمَ} [الأنعام: 71] وهي في قراءة عبد الله: {وَمَا أمرواْ إِلاَّ أن يعبدوا الله} فثبت أن المراد: وما أمروا إلا أن يعبدوا الله مخلصين له الدين.
والإخلاص عبارة عن النية الخالصة، والنية الخالصة لما كانت معتبرة كانت النية معتبرة، فقد دلت الآية على أن كل مأمور به فلابد وأن يكون منوبًا، ثم قالت الشافعية: الوضوء مأمور به في قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} [المائدة: 6] ودلت هذه الآية على أن كل مأمور يجب أن يكون منويًا، فيلزم من مجموع الآيتين وجوب كون الوضوء منويًا، وأما المعتزلة فإنهم يوجبون تعليل أفعال الله وأحكامه بالأغراض، لا جرم أجروا الآية على ظاهرها فقالوا معنى الآية: وما أمروا بشيء إلا لأجل أن يعبدوا الله، والإستدلال على هذا القول أيضًا قوي، لأن التقدير وما أمروا بشيء إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين في ذلك الشيء، وهذا أيضًا يقتضي اعتبار النية في جميع المأمورات.
فإن قيل: النظر في معرفة الله مأمور به ويستحيل اعتبار النية فيه.
لأن النية لا يمكن اعتبارها إلا بعد المعرفة، فما كان قبل المعرفة لا يمكن اعتبار النية فيه.
قلنا: هب أنه خص عموم الآية في هذه الصورة بحكم الدليل العقلي الذي ذكرتم فيبقى في الباقي حجة.
المسألة الثالثة:
قوله: {أمرواْ} مذكور بلفظ ما لم يسم فاعله وهو: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام} [البقرة: 183] {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص} [البقرة: 178] قالوا: فيه وجوه:
أحدها: كأنه تعالى يقول العبادة شاقة ولا أريد مشقتك إرادة أصلية بل إرادتي لعبادتك كإرادة الوالدة لحجامتك، ولهذا لما آل الأمر إلى الرحمة قال: {كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة} [الأنعام: 54]، {كَتَبَ في قُلُوبِهِمُ الإيمان} [المجادلة: 22] وذكر في الواقعات إذا أراد الأب من ابنه عملًا يقول له أولًا: ينبغي أن تفعل هذا ولا يأمره صريحًا، لأنه ربما يرد عليه فتعظم جنايته، فههنا أيضًا لم يصرح بالأمر لتخف جناية الراد.
وثانيها: أنا على القول بالحسن والقبح العقليين، نقول: كأنه تعالى يقول: لست أنا الأمر للعبادة فقط، بل عقلك أيضًا يأمرك لأن النهاية في التعظيم لمن أوصل إليك (أن) نهاية الإنعام واجبة في العقول.
المسألة الرابعة:
اللام في قوله: {وَمَا أمرواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله} تدل على مذهب أهل السنة حيث قالوا: العبادة ما وجبت لكونها مفضية إلى ثواب الجنة، أو إلى البعد عن عقاب النار، بل لأجل أنك عبد وهو رب، فلو لم يحصل في الدين ثواب ولا عقاب ألبتة، ثم أمرك بالعبادة.
وجبت لمحض العبودية، وفيها أيضًا إشارة إلى أنه من عبد الله للثواب والعقاب، فالمعبود في الحقيقة هو الثواب والعقاب، والحق واسطة، ونعم ما قيل: من آثر العرفان للعرفان فقد قال: بالثاني ومن آثر العرفان لا للعرفان، بل للمعروف، فقد خاض لجة الوصول.
المسألة الخامسة:
العبادة هي التذلل، ومنه طريق معبد أي مذلل، ومن زعم أنها الطاعة فقد أخطأ، لأن جماعة عبدوا الملائكة والمسيح والأصنام، وما أطاعوهم ولكن في الشرع صارت اسمًا لكل طاعة الله، أديت له على وجه التذلل والنهاية في التعظيم، واعلم أن العبادة بهذا المعنى لا يستحقها إلا من يكون واحدًا في ذاته وصفاته الذاتية، والفعلية، فإن كان مثل لم يجز أن يصرف إليه النهاية في التعظيم، ثم نقول: لابد في كون الفعل عبادة من شيئين.
أحدهما: غاية التعظيم، ولذلك.
قلنا: إن صلاة الصبي ليست بعبادة، لأنه لا يعرف عظمة الله، فلا يكون فعله في غاية التعظيم.
والثاني: أن يكون مأمورًا به، ففعل اليهودي ليس بعبادة، وإن تضمن نهاية التعظيم، لأنه غير مأمور به، والنكتة الوعظية فيه، أن فعل الصبي ليس بعبادة لفقد التعظيم وفعل اليهودي ليس بعبادة لفقد الأمر، فكيف يكون ركوعك الناقص عبادة ولا أمر ولا تعظيم؟.
المسألة السادسة:
الإخلاص هو أن يأتي بالفعل خالصًا لداعية واحدة، ولا يكون لغيرها من الدواعي تأثير في الدعاء إلى ذلك الفعل، والنكت الوعظية فيه من وجوه:
أحدها: كأنه تعالى يقول عبدي لا تسع في إكثار الطاعة بل في إخلاصها لأني ما بذلت كل مقدوري لك حتى أطلب منك كل مقدورك، بل بذلت لك البعض، فأطلب منك البعض نصفًا من العشرين، وشاة من الأربعين، لكن القدر الذي فعلته لم أرد بفعله سواك، فلا ترد بطاعتك سواي، فلا تستثن من طاعتك لنفسك فضلًا من أن تستثنيه لغيرك، فمن ذلك المباح الذي يوجد منك في الصلاة كالحكة والتنحنح فهو حظ استثنيته لنفسك فانتفى الإخلاص، وأما الإلتفات المكروه فذا حظ الشيطان.
وثانيها: كأنه تعالى قال: يا عقل أنت حكيم لا تميل إلى الجهل والسفه وأنا حكيم لا أفعل ذلك ألبتة، فإذًا لا تريد إلا ما أريد ولا أريد إلا ما تريد، ثم إنه سبحانه ملك العالمين والعقل ملك لهذا البدن، فكأنه تعالى بفضله قال: الملك لا يخدم الملك لكن لكي نصطلح أجعل جميع ما أفعله لأجلك: {هُوَ الذي خلق لَكُم ما فِي الأرض جَمِيعًا} [البقرة: 29] فاجعل أنت أيضًا جميع ما تفعله لأجلي: {وَمَا أمرواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} [البينة: 5].
واعلم أن قوله: {مُخْلِصِينَ} نصب على الحال فهو تنبيه على ما يجب من تحصيل الإخلاص من ابتداء الفعل إلى انتهائه، والمخلص هو الذي يأتي بالحسن لحسنه، والواجب لوجوبه، فيأتي بالفعل لوجهه مخلصًا لربه، لا يريد رياء ولا سمعة ولا غرضًا آخر، بل قالوا: لا يجعل طلب الجنة مقصودًا ولا النجاة عن النار مطلوبًا وإن كان لابد من ذلك، وفي التوراة: ما أريد به وجهي فقليله كثير وما أريد به غير وجهي فكثيره قليل.
وقالوا من الإخلاص أن لا يزيد في العبادات عبادة أخرى لأجل الغير، مثل الواجب من الأضحية شاة، فإذا ذبحت إثنتين واحدة لله وواحدة للأمير لم يجز لأنه شرك، وإن زدت في الخشوع، لأن الناس يرونه لم يجز، فهذا إذا خلطت بالعبادة عبادة أخرى، فكيف ولو خلطت بها محظورًا مثل أن تتقدم على أمامك، بل لا يجوز دفع الزكاة إلى الوالدين والمولودين ولا إلى العبيد ولا الإماء لأنه لم يخلص، فإذا طلبت بذلك سرور والدك أو ولدك يزول الإخلاص، فكيف إذا طلبت مسرة شهوتك كيف يبقى الإخلاص؟ وقد اختلفت ألفاظ السلف في معنى قوله: {مُخْلِصِينَ} قال بعضهم: مقرين له بالعبادة، وقال آخرون: قاصدين بقلوبهم رضا الله في العبادة، وقال الزجاج: أي يعبدونه موحدين له لا يعبدون معه غيره، ويدل على هذا قوله: {وَمَا أمرواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إلها واحدًا} [التوبة: 21].
أما قوله تعالى: {حُنَفَاء وَيُقِيمُواْ الصلاة وَيُؤْتُواْ الزكواة} ففيه أقوال:
الأول: قال مجاهد: متبعين دين إبراهيم عليه السلام، ولذلك قال: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتبع مِلَّةَ إبراهيم حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ المشركين} [النحل: 123] وهذا التفسير فيه لطيفة كأنه سبحانه لما علم أن التقليد مستول على الطباع لم يستجز منعه عن التقليد بالكلية ولم يستجز التعويل على التقليد أيضًا بالكلية، فلا جرم ذكر قومًا أجمع الخلق بالكلية على تزكيتهم، وهو إبراهيم ومن معه، فقال: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ في إبراهيم والذين مَعَهُ} [الممتحنة: 4] فكأنه تعالى قال: إن كنت تقلد أحدا في دينك، فكن مقلدًا إبراهيم، حيث تبرأ من الأصنام وهذا غير عجيب فإنه قد تبرأ من نفسه حين سلمها إلى النيران، ومن ماحين بذله للضيفان، ومن ولده حين بذله للقربان، بل روى أنه سمع سبوح قدوس فاستطابه، ولم ير شخصًا فاستعاده، فقال: أما بغير أجر فلا، فبذل كل ما ملكه فظهر له جبريل عليه السلام، وقال: حق لك حيث سماك خليلًا فخذ مالك، فإن القائل: كنت أنا، بل انقطع إلى الله حتى عن جبريل حين قال: أما إليك فلا، فالحق سبحانه كأنه يقول: إن كنت عابدًا فاعبد كعبادته، فإذا لم تترك الحلال وأبواب السلاطين، أما تترك الحرام وموافقة الشياطين، فإن لم تقدر على متابعة إبراهيم، فاجتهد في متابعة ولده الصبي، كيف إنقاد لحكم ربه مع صغره، فمد عنقه لحكم الرؤيا، وإن كنت دون الرجل فاتبع الموسوم بنقصان العقل، وهو أم الذبيح، كيف تجرعت تلك الغصة، ثم إن المرأة الحرة نصف الرجل فإن الإثنتين يقومان مقام الرجل الواحد في الشهادة والإراث، والرقيقة نصف الحرة بدليل أن للحرة ليلتين من القسم فهاجر كانت ربع الرجل، ثم انظر كيف أطاعت ربها فتحملت المحنة في ولادها ثم صبرت حين تركها الخليل وحيدة فريدة في جبال مكة بلا ماء ولا زاد وانصرف، لا يكلمها ولا يعطف عليها، قالت آلله أمرك بهذا؟ فأومأ برأسه نعم، فرضيت بذلك وصبرت على تلك المشاق.
والقول الثاني: المراد من قوله: {حُنَفَاء} أي مستقيمين والحنف هو الاستقامة، وإنما سمي مائل القدم أحنف على سبيل التفاؤل، كقولنا: للأعمى بصير وللمهلكة مفازة، ونظيره قوله تعالى: {إِنَّ الذين قالواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا} [فصلت: 30] {اهدنا الصراط المستقيم} [الفاتحة: 6].
والقول الثالث: قال ابن عباس رضي الله عنهما حجاجًا، وذلك لأنه ذكر العباد أولًا ثم قال: {حُنَفَاء} وإنما قدم الحج على الصلاة لأن في الحج صلاة وإنفاق مال الرابع: قال أبو قلابة الحنيف الذي آمن بجميع الرسل ولم يستثن أحدا منهم، فمن لم يؤمن بأفضل الأنبياء كيف يكون حنيفًا الخامس: حنفاء أي جامعين لكل الدين إذ الحنيفية كل الدين، قال عليه السلام: «بعثني بالحنيفية السهلة السمحة» السادس: قال قتادة: هي الختان وتحريم نكاح المحارم أي مختونين محرمين لنكاح الأم والمحارم، فقوله: {حُنَفَاء} إشارة إلى النفي، ثم أردفه بالإثبات، وهو قوله: {وَيُقِيمُواْ الصلاة} السابع: قال أبو مسلم: أصله من الحنف في الرجل، وهو إدبار إبهامها عن أخواتها حتى يقبل على إبهام الأخرى، فيكون الحنيف هو الذي يعدل عن الأديان كلها إلى الإسلام الثامن: قال الربيع بن أنس: الحنيف الذي يستقبل القبلة بصلاته، وإنما قال ذلك لأنه عند التكبير يقول: وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفًا، وأما الكلام في إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة فقد مر مرارًا كثيرة، ثم قال: {وَذَلِكَ دِينُ القيمة} وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
قال المبرد والزجاج: ذلك دين الملة القيمة، فالقيمة نعت لموصوف محذوف، والمراد من القيمة إما المستقيمة أو القائمة، وقد ذكرنا هذين القولين في قوله: {كُتُبٌ قَيّمَةٌ} وقال الفراء: هذا من إضافة النعت إلى المنعوت، كقوله: {إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ اليقين} [الواقعة: 95] والهاء للمبالغة كما في قوله: {كُتُبٌ قَيّمَةٌ}.
المسألة الثانية:
في هذه الآية لطائف إحداها: أن الكمال في كل شيء إنما يحصل إذا حصل الأصل والفرع معًا، فقوم أطنبوا في الأعمال من غير إحكام الأصول، وهم اليهود والنصارى والمجوس، فإنهم ربما أتعبوا أنفسهم في الطاعات، ولكنهم ما حصلوا الدين الحق، وقوم حصلوا الأصول وأهملوا الفروع، وهم المرجئة الذين قالوا: لا يضر الذنب مع الإيمان، والله تعالى خطأ الفريقين في هذه الآية، وبين أنه لابد من العلم والإخلاص في قوله: {مُخْلِصِينَ} ومن العمل في قوله: {وَيُقِيمُواْ الصلاة وَيُؤْتُواْ الزكواة} ثم قال: {وذلك} المجموع كله هو {دِينُ القيمة} أي البينة المستقيمة المعتدلة، فكمال أن مجموع الأعضاء بدن واحد كذا هو المجموع دين واحد فقلب دينك الاعتقاد ووجهه الصلاة ولسانه الواصف لحقيقته الزكاة لأن باللسان يظهر قدر فضلك وبالصدقة يظهر قدر دينك، ثم إن القيم من يقوم بمصالح من يعجز عن إقامة مصالح نفسه فكأنه سبحانه يقول: القائم بتحصيل مصالحك عاجلًا وآجلًا هو هذا المجموع، ونظيره قوله تعالى: {دِينًا قِيَمًا} [الأنعام: 161] وقوله في القرآن: {قَيِّمًا لِّيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا} [الكهف: 2] لأن القرآن هو القيم بالإرشاد إلى الحق، ويؤيده قوله عليه السلام: «من كان في عمل الله كان الله في عمله». وأوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام: «يا دنيا من خدمك فاستخدميه، ومن خدمني فاخدميه».
وثانيها: أن المحسنين في أفعالهم هم مثل الحق سبحانه وذلك بالإحسان إلى عبيده والملائكة، وذلك بأنهم اشتغلوا بالتسبيح، لخالقهم فالإحسان من الله لا من الملائكة، والتعظيم والعبودية من الملائكة لا من الله، ثم إن الإنسان إذا حضر عرصة القيامة فيقول الله مباهيًا بهم: ملائكتي هؤلاء أمثالكم سبحوا وهللوا، بل في بعض الأفعال أمثالي أحسنوا وتصدقوا، ثم إني أكرمكم يا ملائكتي بمجرد ما أتيتم به من العبودية وأنتم تعظموني بمجرد ما فعلت من الإحسان، فأنتم صبرتم على أحد الأمرين؛ أقاموا الصلاة أتوا بالعبودية وآتوا الزكاة أتوا بالإحسان، فأنتم صبرتم على أحد الأمرين وهم صبروا على الأمرين، فتتعجب الملائكة منهم وينصبون إليهم النظارة، فلهذا قال: {والملائكة يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سلام عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ} [الرعد: 23، 24] أفلا يكون هذا الدين قيمًا.
وثالثها: أن الدين كالنفس فحياة الدين بالمعرفة ثم النفس العالمة بلا قدرة كالزمن العاجز، والقادرة بلا علم مجنونة فإذا اجتمع العلم والقدرة كانت النفس كاملة فكذا الصلاة للدين كالعلم والزكاة كالقدرة، فإذا اجتمعتا سمي الدين قيمة ورابعها: وهو فائدة الترتيب أن الحكيم تعالى أمر رسوله أن يدعوهم إلى أسهل شيء، وهو القول والاعتقاد فقال: {مُخْلِصِينَ} ثم لما أجابوه زاده، فسألهم الصلاة التي بعد أدائها تبقى النفس سالمة كما كانت، ثم لما أجابوه وأراد منهم الصدقة وعلم أنها تشق عليهم قال: «لا زكاة في مال يحول عليه الحول» ثم لما ذكر الكل قال: {وَذَلِكَ دِينُ القيمة}.
المسألة الثالثة:
احتج من قال: الإيمان عبادة عن مجموع القول والاعتقاد والعمل بهذه الآية، فقال: مجموع القول والفعل والعمل هو الدين والدين هو الإسلام والإسلام هو الإيمان فإذًا مجموع القول والفعل والعمل هو الإيمان، لأنه تعالى ذكر في هذه الآية مجموع الثلاثة.
ثم قال: {وَذَلِكَ دِينُ القيمة} أي وذلك المذكور هو دين القيمة وإنما قلنا: إن الدين هو الإسلام لقوله تعالى: {إِنَّ الدّينَ عِندَ الله الإسلام} [آل عمران: 19] وإنما قلنا: إن الإسلام هو الإيمان لوجهين:
الأول: أن الإيمان لو كان غير الإسلام لما كان مقبولًا عند الله تعالى لقوله تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85] لكن الإيمان بالإجماع مقبول عند الله، فهو إذًا عين الإسلام.
والثاني: قوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ المؤمنين فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مّنَ المسلمين} [الذاريات: 35، 36] فاستثناء المسلم من المؤمن، يدل على أن الإسلام يصدق عليه، وإذا ثبتت هذه المقدمات، ظهر أن مجموع هذه الثلاثة أعني القول والفعل والعمل هو الإيمان، وحينئذ يبطل قول من قال: الإيمان اسم لمجرد المعرفة، أو لمجرد الإقرار أولهما معًا والجواب: لم لا يجوز أن تكون الإشارة بقوله: {وَذَلِكَ} إلى الإخلاص فقط؟ والدليل عليه أنا على هذا التقدير لا نحتاج إلى الإضمار أولى، وأنتم تحتاجون إلى الإضمار، فتقولون: المراد وذلك المذكور، ولا شك أن عدم الإضمار أولى، سلمنا أن قوله: {وَذَلِكَ} إشارة إلى مجموع ما تقدم لكنه يدل على أن ذلك المجموع هو الدين القيم، فلم قلتم: إن ذلك المجموع هو الدين، وذلك لأن الدين غير، والدين القيم، فالدين هو الدين الكامل المستقبل بنفسه، وذلك إنما يكون إذا كان الدين حاصلًا، وكانت آثاره ونتائجه معه حاصلة أيضًا، وهي الصلاة والزكاة، وإذا لم يوجد هذا المجموع، لم يكن الدين القيم حاصلًا، لكن لم قلتم: إن أصل الدين لا يكون حاصلًا والنزاع ما وقع إلا فيه؟ والله أعلم. اهـ.